وسام عبد الله
أول مطالب عائلات المعتقلين والمفقودين في سوريا، تحقيق العدالة لضحاياهم، عبر محاكم قانونية تصدر الأحكام بحق المتهمين، وهو الأمر الذي يساهم في تحقيق العدالة الانتقالية، فالثأر والتصفيات الفردية والاحكام الجماعية، لا تعطي الضحايا حقهم ولا تمنح المجتمع السلم الأهلي.
تُعرف الأمم المتحدة العدالة الانتقالية بأنها “كامل نطاق العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم تركة تجاوزات الماضي الواسعة النطاق بغية كفالة المساءلة وإقامة العدالة وتحقيق المصالحة”، والتي تهدف إلى الاعتراف بضحايا تجاوزات الماضي على أنهم أصحاب حقوق، وتعزيز الثقة بين الأفراد في المجتمع الواحد، وثقة الأفراد في مؤسسات الدولة، وتدعيم احترام حقوق الإنسان وتعزيز سيادة القانون.
تقوم العدالة الانتقالية على مجموعة من العمليات التي تساهم في تماسك سياقها ووضعها في الاطار الصحيح، منها تقصي الحقائق وصون الأدلة والوثائق وهو ما تشدد عليه المنظمات وعائلات المعتقلين والمفقودين، مع فتح أبواب السجون والفوضى التي حدثت وأدت إلى تلف العشرات من الأوراق الثبوتية المتعلقة بحياة المعتقلين. كما تشمل العملية، الملاحقات القضائية بعيدا عن منطق الثأر، ووضع مجموعة واضحة من التعويضات على الضحايا وعائلاتهم، ثم تعزيز العدالة عبر الدستور والتشريعات لمنع تكرار الانتهاكات، وإبراز دور المجتمع المدني والمبادرات الثقافية والتعليمية وأرشفة الاحداث والقصص الانسانية والقانونية، والعمل على الدعم والعلاج النفسي من الصدمات.
فهي تقوم على كشف مرتكبي الجرائم ومحاكمتهم، والتعويض على الضحايا، والاصلاح القانوني والمجتمعي. فالعملية قائمة على الحالات، بالاستماع لها وتوثيقها ومتابعتها، وليس على تنفيذ الاحكام على الجماعات أو المجموعات بشكل كامل لمجرد أنها تنتمني دينيا أو مناطقيا أو ثقافيا، لمرتكب الجناية. في الحالة الأخيرة، القائمة على العقاب الجماعي، تكون السلطة القائمة على تنفيذ المحاكمات، تضيع الحقيقة وتجهز الأرضية الشعبية لثورة مضادة لها في المستقبل.
العدالة الانتقالية قائمة على مستويين، داخلي، يشمل السلطات السياسية والقضائية المحلية والتي تحرص على تنفيذ المسار القانوني. وخارجي، في حال التوجه نحو المحاكم الدولية لمحاسبة مرتكبي جرائم الحرب.
أثر العدالة الانتقالية لا يقاس فقط بالجلاد والضحية، إنما يتعداه نحو المجتمع، حين يدرك كل مسؤول أنه لن يفلت من العقاب بحال ارتكابه جرما، مما يعزز الثقة بين المواطن ودولته، وإعادة التماسك الاجتماعي بين مختلف الاطراف، فهي عملية تستمر على مدة زمنية طويلة، ليس في آلية المحاكمات فقط إنما في نشر نتائجها الايجابية للأجيال المقبلة.
في التاريخ عدة نماذج من المحاولات للدخول في العدالة الانتقالية والتي نجح بعضها وتعثر الآخر. في لبنان، انتهت الحرب الأهلية عام 1990 بصيغة لا غالب ولا مغلوب، نتيجة الحساسية الطائفية بين الجماعات، فأصبح من ارتكب جرائم الحرب، هو السلطة، وهو ما يفسر عدم توقيع لبنان على برتوكول المحكمة الجنائية الدولية، تحسبا لمنع تسليم أحد رموز القتال السابقين.
في جنوب افريقيا، شُكلت لجنة الحقيقة والمصالحة بقيادة القس ديزموند توتو، وعلى مدى ثلاث سنوات (بعد عام 1991)، بعد سقوط نظام الفصل العنصري، استمعت اللجنة لشهادات الضحايا وحُكم على الآلاف من المسؤولين، واستفاد آخرون من العفو في شروط صارمة، ورغم ذلك تعثرت لعدم نفاذ العدالة وطول الإجراءات.
في الارجنتين، بعد سقوط الحكم العسكري (1976 – 1983)، شكلت لجنة تحقيق من مختلف الاطراف الحقوقية والروحية، وتم محاكمة أبرز القيادات العسكرية، لكنها تراجعت مع وصول الرئيس كارول منعم عام 1989 بإصداره عفو عام عن العسكريين