وسام عبد الله
قبل عام 2011، أقامت الفرقة السمفونية الوطنية السورية حفلا في أحد المركز الثقافية في الرقة (شرق سوريا)، وعبّر حينها بعض أعضاء الفرقة على أنها من أهم الامسيات التي قدمت، والسبب أن الجمهور الحاضر كانت لديه رغبة بسماع الموسيقى والتعرف عليها في حين كانت معظم الحفلات تقام في مسارح المدن الرئيسية. في الاحكام المسبقة، أن الريف بعيد عن الاهتمام بسماع موسيقى كلاسيكية، هذا المثال الثقافي والاجتماعي، يعبر عن استعداد المناطق البعيدة عن المدن الرئيسية، والتي تتسم بالطبع الريفي، للاستقبال والتنوع من جهة، والفجوة بين المناطق من جهة أخرى.
كون الريف يشكل المساحة الأكبر جغرافيا والخزان الأضخم سكانيا في سوريا، وتمركز الثروات الزراعية والباطنية في محافظاته، إضافة للعلاقة الجدلية مع المدينة طوال أكثر من 100 عام، والتنوع الديني والثقافي والامتداد في المناطق الحدودية نحو بلدان الجوار، جعلت الأرياف السورية نقطة تحول أساسية في التاريخ السياسي السوري.
في الامكانيات الزراعية وانعكاسها على الواقع الاجتماعي. يبلغ مجموع الأراضي القابلة للزراعة 6 مليون هكتار مستثمر منها 5.7 مليون هكتار وتبلغ مساحة الأراضي المروية 1.4 مليون هكتار والبعلية 3.3 مليون هكتار وتبلغ مساحة الحراج 576 ألف هكتار، فيما تبلغ مساحة سوريا 18.5 مليون هكتار، وتشكل الزراعة نحو 17 في المئة من نسبة الدخل المحلي، ويعمل فيها أكثر من مليون عامل. (قبل 2011)
تراجع القطاع الزراعي في سوريا، مع تمدد التصحر وتآكل التربة بسبب التغير المناخي من جهة، والسياسات الحكومية التي أهملت الريف وتركيزها على بعض المدن، خلال العقدين الأخيرين بشكل خاص، فأدت إلى ارتفاع معدل الهجرة من الريف إلى المدينة، لينخفض عدد العاملين بالزراعة واكتظاظ المدن بالسكان، وظهور الفوارق الطبقية والاجتماعية، فازدادت البطالة والفقر، وانتشرت العشوائيات داخل المدينة وحولها.
تتنوع البنية الاجتماعية في الريف، في نموذج القسم الشرقي، كمثال وليس للحصر، للعشائر الدور الهام في إدارة المجتمع، والتي تحافظ على قيمها وعاداتها الاجتماعية، والممتدة في روابطها العائلية نحو عشائر في العراق والاردن والسعودية. أما الاكراد حيث تشكل المنطقة الشرقية الثقل الأساسي لتواجدهم، مع قربهم الجغرافي من أكراد تركيا والعراق، مع التباعد والتقارب سياسيا معهم بحسب الظروف السياسية والاقليمية.
شكل الريف البنيّة “الشرعية” لحزب البعث، فكان الفلاح والمزراع هم الخزان البشري والسياسي لـ”البعث”، فحرص على تقديم الدعم لهم وتحسين ظروفهم وتخصيص نسبة من المقاعد في مجلس الشعب للعمال والفلاحين، لكن الدعم تراجع بعد عام 2000، مع توجه الدولة نحو “اقتصاد السوق” في العلن فيما التطبيق كان حصر الثروات في مجموعات مقربة من النظام وفتح الاسواق أمام الاستيراد وتحديدا للمنتجات التركية على حساب المنتج المحلي، مما سبب خلالا في أحد الاعمدة الرئيسية في الدولة وهي، استقرار الريف. لم تكن الاحزاب والعمل السياسي غائبا عن سكان الارياف، فقد تنوع بحسب المرحلة السياسية، فقد انتشر الفكر الناصري والحزب السوري القومي الاجتماعي والشيوعية في مناطق ريفية، مثل أرياف دمشق وحمص ودير الزور، كما كان للتيار الديني حضوره الاوسع مع تراجع العمل الحزبي. وبعد عام 2011، كان الريف هو المنطلق الاساسي للمظاهرات والتحركات، ثم انتقل لمرحلة الفصائل المسلحة التي بدورها تبدلت وعبرت من حالة إلى آخرى، من “الجيش السوري الحر” وصولا إلى “هيئة تحرير الشام” وما بينهما من فصائل متعددة بمشاربها وأفكارها، وارتباط منها بأجهزة خارجية.
العلاقة الجدلية بين الريف والمدينة، تعود لعقود طويلة، لمرحلة الاحتلال العثماني، مرت بفترات اتسمت بالصراع الثقافي والفكري والطبقي، وفي مرحلة أخرى كان فيها التكامل في العلاقة والتواصل الاجتماعي والاقتصادي. لا يمكن تجاوز الريف، فهو سلة الغذاء واليد العاملة، فليست الحاجة بتحويل الأريف إلى مدن، ولا الاتجاه إلى “ترييف” المدينة، إنما التنمية المستدامة التي تساهم في دعم المجتمعات والاقتصاد السوري، في الاستهلاك الداخلي والتصدير، من المحاصيل الزراعة والثروات الحيوانية.